القبة (في العمارة)
القبة dome عنصر معماري كروي الشكل، أو قطّاع من كرة، يهدف إلى حلّ إنشائي لتغطية الفراغات الكبيرة عن طريق تحويل الحمولات الأفقية إلى حمولات شاقولية، وذلك بأقل سماكة ممكنة، ومن دون الحاجة إلى ركائز استنادية داخل الفراغ المغطى.
الغاية من القبة
يُعد بناء القبة المرحلة الأهم في مراحل تطور الفن المعماري عبر التاريخ، حيث توصلت العمارة بوساطتها إلى تصميم وتنفيذ الفراغات العامة الكبيرة الخالية من الأعمدة أو الركائز التي كانت تتطلبها التغطيات المستوية، وأصبحت القباب إحدى العناصر المعمارية المهمة التي يسعى إليها المعماريون والإنشائيون لإبراز قدراتهم وإبداعاتهم الفنية والهندسية.
لمحة تاريخية حول القباب
عرفت مختلف حضارات بلاد الرافدين Mesopotamia، وبلاد الشام، هذه التغطية في البيوت الريفية، وما تزال تُستخدم حتى يومنا هذا ومنها قباب ريف حلب في شمالي سـورية ، وهي مخروطية الشكل مماثلة لتلك المشيدة في نينوى Nineveh بالعراق، ويصل ارتفاعها إلى 7م عن سطح الأرض. كذلك استخدمت القباب في بعض المدافن الدينية في العمارة المصرية .
ارتبط إنشاء القباب تاريخياً بالعصر الروماني فقد كان عنصر القبة نظاماً معمارياً استخدم بمهارة وإبداع، وبشكلٍ سيطر فيه على كتل المباني وحجومها، حيث سُمَيت الفترة الممتدة من القرن الأول حتى الخامس الميلادي بعصر الأقواس arcs والقباب. أما أهم القباب الرومانية فهي قبة مجمع الأرباب The Pantheon في روما، ويبلغ قطرها 80.43م، وارتفاعها 43م .
أهم القباب المعروفة في التاريخ المعماري، والأبعاد الرمزية للقبة
استخدم البيزنطيون بعد الرومان، القباب في تغطية الكنائس بمجازات كبيرة جداً تدل على براعة هندسية، كما اهتموا بجمالية القبة من حيث النسب والزخارف ornaments الداخلية التي تضفي جواً من الخشوع والرهبة، ومن أروع منجزاتهم كنيسة القديسة صـوفيا التي بناها جستنيان (يوستنيانوس) في القسطنطينية (اسطنبول Istanbul اليوم) في الفترة بين 532و537م، حيث أخذت عن الشرق ألوانها وغنى زخارفها الداخلية، وعن الغرب روعة المقياس وجرأة الإنشاء.
بُنيت القبة من وحدات القرميد، وبلغ قطرها 65.32م، وارتفاعها عن سطح الأرض 54م، وهي محمولة على مثلثات كروية pendentives، وقد حَوَّلها الأتراك إلى مسجد جامع بعد فتحهم القسطنطينية عام 1453م، فأضافوا إليها المآذن الأربع .
وعلى صعيد العمارة المحلية، شهدت سورية العديد من كنائس فجر المسيحية، التي تميزت بقبابها المركزية. كانت المدرسة المعمارية والفنية السورية منهلاً لأصقاع الامبراطورية البيزنطية كافة.
ومن أهم هذه الكنائس كنيسة القديس جورج في إزرع، العائدة لعام 515م، والمبنية من حجر البازلت المحلي، ومسقطها مربع من الخارج، أما صحن الكنيسة فهو مثمن تعلوه قبة مخروطية الشكل conical form، وتمّ الانتقال فيها من المثمن إلى الدائرة بتسوية الحجر بتدرج خفيف.
تطورت هندسة القباب على أيدي العرب المسلمين نتيجة تراكم الخبرات وتنوع مواد البناء إضافةً إلى تقدُّم تقانات وأساليب الإنشاء، فتعددت أشكالها من الداخل والخارج. ويظهر بالرسم المرفق نماذج لقباب العالم الإسلامي منها: القبة البصلية المحززة، والقبة المخروطية، والقبة الكروية وغيرها.
وتعد قبة الصخرة Dome of the Rock في القدس باكورة القباب الإسلامية ، وتعود للعصر الأموي (661ـ750م)، شيدها الخليفة عبد الملك بن مروان عام 72هـ، ومسقطها مثمن طول ضلعه 20.95م، وارتفاعها 31.5م، تتألف القبة من طبقتين، العلوية خشبية تكسوها صفائح من الرصاص وفوقها ألواح من النحاس المذهب. ولها رقبة تتخللها ست عشرة نافذة قوسية للإنارة.
ومن قباب العصر العباسي، قبة ضريح mausoleum الصليبية في سامراء Samarra، وهو الضريح الأول في الإسلام، ويضم رفات الخلفاء: المنتصر والمعتز والمهتدي. وهنا بدأت القبة تأخذ بعداً فكرياً فلسفياً، وهو ما يُدعى بالعمارة الرمزية. فالقبة تُمَثِّل السماء، وتعني الأزلية والخير والاتصال بالخالق وبالكون اللامحدود، والمكعب يرمز إلى الأرض باتجاهاتها الأربعة، وفصولها الأربعة، ويعني الفساد والفناء، ورمزت العلاقة بينهما إلى الثنائية بين الخير والشر، وإلى الانعتاق من الفساد باتجاه النفوس السماوية الخيّرة في جدلية معمارية بين القبة والمربع الذي ترتكز عليه، وقد تجلى إيمان المعماريين والأمراء والسلاطين بهذه الفلسفة، التي تعود إلى أصول يونانية ومصرية ورافدية، فيما يُسمى بعمارة المدافن التي كانت القبة عنوانها الرئيسي
وفي مسجد ابن طولون في القاهرة، الذي بني بين عامي 871و879 م، تتميز القبة بجمالها من حيث الحجم والنحت، والانتقال الرائع من المكعب إلى الدائرة وبتراجع الرقبات التي تستند إليها
أما القباب الإسلامية في المغرب العربي فكثيرة، ومنها قبة جامع القيروان في تونس، الذي بناه عقبة بن نافع عام 64هـ/663م، وهي قبة محززة، لها 24أخدوداً، ولها رقبة تخترقها ثماني نوافذ للإنارة، يحمل الرقبة مثمن مزين بمقرنصات صدفية الشكل في أركان البناء الأربعة.
بعد تأسيس الخلافة الأموية في الأندلس (إسبانيا) على يد عبد الرحمن الداخل، شهدت القباب تنوعاً في الشكل وغنىً في الزخرفة، فظهر فيها الرقش Arabesque عنصراً إنشائياً زخرفياً، إضافةً إلى تطور استخدام المقرنصات stalactites التي حلّت محل المثلثات الكروية كعنصر انتقال من المكعب إلى الكرة، ولم يتطلع المعماريون الأندلسيون إلى محاكاة القباب ذات المجازات الواسعة، بل تجلت إبداعاتهم في ترسيخ خصائص المدرسة الفنية الإسلامية التي ابتعدت كلياً عن التصوير.
ويتجسد هذا الأمر في قباب مسجد قرطبة Cordobaالكبير ، الذي شرع ببنائه عام 785م.
أما القباب السلجوقية، فأشهرها قبة البيمارستان النوري الذي شيده نور الدين محمود بن زنكي، في محلة سيدي عامود (الحريقة) بدمشق، ويبلغ قطرها 5م، وهي على شكل مقرنصات من الداخل ومن الخارج ، كما تشكل نموذجاً فريداً من نماذج العمارة الإسلامية.
وأما أشهر القباب العثمانية، فهي قبة جامع السلطان سليم الثاني Selim II في أدرنة Edirne (Adrianople)، المشيد بين العامين 1570 و1574م، وهو متأثر بالطراز المعماري لكنيسة آيا صوفيا .
حافظت الفترات الإسلامية المختلفة على الشخصية الخاصة للقباب، التي تميزت بتأكيد الرمزية، وجمالية النسب والحجم المعماري، علماً أن القبة في العمارة الإيرانية تميزت بإضافة التوريق (الزخرفة النباتية)، واستخدام قطع القيشاني الذي يغلب عليه اللون الفيروزي في السطوح الخارجية. كما في قبة مدرسة الشاه سلطان حسين Chah Sultan Housein في أصفهان Isfahan، العائدة لعام 1710م.
القبة في العمارة المعاصرة
استمرت عمارة القباب في التطور، ولم يتخل الفن المعماري عن هذا العنصر الوظيفي والجمالي، بل سُخرت كل الإمكانات المتاحة في العصر الحديث لإبراز هذا العنصر المعماري المهم.
كما أن الوظائف المدينية الجديدة، التي تتطلب فراغات كبيرة، قد أسهمت في تطوير القباب إلى درجة كبيرة، فالملاعب الرياضية، والمحافل الموسيقية، والمعارض الدولية تطلبت الاستعانة بهذا العنصر المعماري الذي واكب التاريخ البشري كشاهد على حضارة وعظمة الفكر الإنساني الخلاق، وقد أسهمت مختلف الحضارات في تقديم أنواع مختلفة تميز كل منها في هذا المجال.
ولا ريب في أن المستقبل سيحمل المزيد من الإبداع في عالم القباب اعتماداً على الإمكانات الهائلة التي تقدمها البرامج الهندسية الرقمية digital في مجال التغطيات المعمارية.
No comments:
Post a Comment