Wednesday, October 2, 2024

طوكيو



تزخر تجربة مدينة طوكيو بالعديد من الدروس الملهمة. وأهم ما يميز هذه التجربة هي مراعاتها للخصوصية المحلية التي تميز الثقافة اليابانية حيث تقوم المرتكزات الأساسية التي توجه عملية التخطيط العمراني في المدينة على فلسفة فانغ شوي والتي من مقوماتها مراعاة قضايا المناخ. أما المرتكز الآخر الذي يحرك عملية التطوير العمراني فهو الاستجابة للتغيرات السريعة التي تشهدها مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية

لهذا قامت طوكيو بتغيير استراتيجياتها التخطيطية ومعها هيكلها العمراني ثلاث مرات خلال ثلاثة عقود ونصف، وهذا أمر قلما يحدث عند وضع استراتيجيات تخطيط المدن. هذه التغييرات السريعة نسبياً كانت ضرورية حتى يستجيب الهيكل العمراني لمدينة طوكيو في كل مرة لمتطلبات ومقتضيات المرحلة التي تفرضها التطورات السريعة على المستويين المحلي والعالمي في المجتمع والاقتصاد والتكنولوجيا وتنافسية المدن.

اعتمد الهيكل العمراني لسنة 1982 على مبدأ تعدد مراكز التنمية التي تضم كثافة الوظائف والأعمال والأنشطة العمرانية في المدينة. إلا أن هذا التمركز الشديد فاقم من سوء الاختناقات المرورية وعطَّل انسيابية حركة المركبات فشكَّل بالتالي عامل طرد للسكان بسبب ارتفاع الإيجارات والأسعار وباعد بين مناطق السكن ومناطق العمل فزاد من عناء الرحلات اليومية المرهقة للموظفين

لهذا جاءت استراتيجية (2001) بهيكل عمراني بديل يقوم على مفهوم المدينة المتروبولية الكبرى ذات المدن المدارية حولها تحت عنوان الاستجابة لمتطلبات التطوير العمراني ومعالجة تحدياته من خلال التركيز على لامركزية الوظائف والأعمال ونقل عدد من مراكز الأعمال والوظائف لمراكز المدن التابعة الأصغر التي تحيط بالمدينة الأم. فما دام الهيكل العمراني متعدد المراكز لم يعد مناسباً لمواجهة تحديات المرحلة، وما دام التركز المفرط للخدمات والأعمال في مراكز النمو قد أضعف المدينة، ظهرت الحاجة لمعالجة هذا الوضع بنقل وظائف هذه المراكز للمدن المدارية/التابعة. فكان لا بد من تغيير الاستراتيجية لتصبح قائمة على سياسات تخطيطية يتم إعدادها وفق رؤية واضحة لتوجيه التنمية وإنشاء محاور حاملة لمختلف الاستعمالات المكتبية والتجارية والسكنية والصناعية والثقافية. إلا أنه بعد عقد ونصف من اعتماد هذه الاستراتيجية وهيكلها العمراني، اتضح أنه بلغ منتهاه، فكان لا بد من استراتيجية جديدة وهيكل بديل أكثر ملاءمة واستجابة لتحديات المرحلة الجديدة

هذا بالضبط ما وُضعت من أجله استراتيجية سنة (2017) وهيكلها العمراني الذي يتخلى عن فكرة مراكز النمو التي تضم مراكز الأعمال والوظائف من أساسها سواء كانت هذه المراكز في محاور التنمية أو في المدن المدارية/التابعة، ليبني بديله على المقومات المحلية الكامنة باستغلال الميزات التنافسية لموقع المدينة وتاريخها وخصائصها المتفردة لتستثمر فيها لرفع كفاءة أدائها في تنافسيتها مع المدن العالمية الأخرى. ذلك انه لوحظ بعض الضعف في تنافسية المدينة بسبب الأزمة الاقتصادية ومحدودية فرص الانتعاش. فبدأ التدهور يدب في المناطق العمرانية وحدث تخلخل في توزيع التركيبة الديموغرافية بسبب تناقص الولادات وتشايخ المجتمع 

وبعد سنة 2000 أصبح تطوير استعمالات الأراضي يتمحور حول محطات النقل العام ومسارات القطارات

ختاماً، ان تغيير وتحديث الهيكل العمراني لطوكيو هو استجابة ومسايرة لمقتضيات كل مرحلة، ويمكن للعديد من المدن المعتمدة حاليا على المركبات الخاصة ان تستلهم من هذه التجربة الغنية لمدينة طوكيو حيث نصف الرحلات بالقطارات وربعها بالمشي ونصيب التنقل بالمركبات فقط (12%)

 

No comments:

Post a Comment